الرجع البعيدالرجع البعيد by فؤاد التكرلي
My rating: 4 of 5 stars

(الرجع البعيد الافضل في تاريخ الرواية العراقية فقد قدم لنا مشهد بهذا التنوع وبهذا الثراء. فما أن ننتهي من قراءة الفصل الأول إلا ونكون على معرفة بجميع شخصيات الرواية المدورة منها أو البسيطة. الزمن بأبعاده الثلاثة. الماضي المطمئن القدري تمثله أم مدحت. الحاضر القلق المتعب تمثله شخصية حسين والمستقبل الغامض ترسمه لنا الطفلة سناء. محلة باب الشيخ وشارع الكفاح والحواري المحيطة به مسرحاً لأحداث الرواية.

تبدأ الرواية بعودة أم مدحت بصحبة الطفلة سناء من السوق إلى البيت في محلة باب الشيخ وأثناء عودتها تلمح حسين زوج ابنتها مديحة وقد عاد لتوه من الكويت بعد غياب عامين، إنه لا يعيش مع زوجته وطفلتيه. ومن خلال الحوار بين الجدة والطفلة ـ بين جيلين مختلفين ـ تحاول الجدة تلقين موروثها من التقاليد «لا تخلين اسم الله يوكع من حلكج»… ثم يقدم التكرلي لنا بيت عبد الرزاق اسماعيل ونتبين الصعوبة والمعاناة لأهل الدار حين يهمون بالدخول إلى ذلك البيت ذي الأبواب التي تصر صريراً عالياً حين تفتح، وهناك المجاز المظلم الضيق المليء بالدبيب. إن فكرة المجاز المظلم تتردد في ثنايا الرواية حتى حسين حين يدخل الدار يذكرنا «ليش ما تخلون ضوا كهرباء/ شمعة/ بها المجاز الأكشر». وإن بعض الأحداث الدرامية تقع في مدخل الدار، لقاء عدنان بمنيرة ولقاء والد فؤاد بعبد الكريم. إن البيت ـ هنا ـ رمز للوطن العراق وثمة بيت آخر بيت العجوز عطية لا أرى فيه إلا امتداداً لبيت عبد الرزاق، إنه التواصل مع الرمز الأول ـ الحاج يتحدث عن تاريخ العراق حتى أنه يستخدم مفردات تركية وإنكليزية ـ وهناك أيضاً الخرابة في نهاية الرواية ذات الدلالة المبطنة للعراق ـ لم يقل التكرلي ذلك ـ الذي مازال خرابة مهدمة مخلوعة الأبواب لم يكتمل بناؤه لسبب أو آخر.

كيف استطاع التكرلي أن يكتب رواية شيقة وطويلة علماً أن زمن الرواية لا يتجاوز الستة أشهر ـ جاءت منيرة من بعقوبة مع بداية العطلة الصيفية وتنتهي الرواية بمصرع مدحت في شهر شباط، إن التجربة القصصية السابقة للتكرلي لم تأت دون ثمار إذ أن بناء روايته يعتمد على مجموعة قصص ولكن هذه القصص تتقاطع بشكل لا يمكن حذف أي منها، عودة حسين من الكويت، زواج منيرة من مدحت بعد أن لاذت بالفرار من بعقوبة، وقد اعتمد أسلوبين في كتابته، أسلوب السرد حيث يقتضي التدخل المباشر، وأسلوب استخدام ضمير المتكلم للتعرف على النوازع الداخلية للأبطال، إنه يبدأ من نهاية الأحداث معتمداً التلميح ـ عودة حسين من الكويت، موت فؤاد ومصرع مدحت، إنه أسلوب شيق يداهم القارئ بالحدث تاركاً إياه في نشوة الاكتشاف والفضول، وفي حالات معينة يحاول تكثيف الأحداث لتهيئة القارئ، لنأخذ على سبيل المثال المقطع العاشر حيث مدحت جالس في مقهى المربعة يستمع إلى حوار بين شخصين من شمال العراق نفهم من أحدهما أن له زوجة وله أولاد منها ولكنها هجرته إلى أحضان رجل آخر وفي نفس المقطع نلتقي بسعيد الذي له زوجة «خوش بنية مرتاح وياها»، هذه الأحداث لم تأت اعتباطاً، قصتان متناقضتان ولكنهما تتعلقان بعلاقة الرجل بالمرأة، إن مدحت لا يعلق على هذه الأحداث لأنه هو الآخر في محنة سببها امرأة.

قدم لنا فؤاد التكرلي ثلاثة نماذج للمرأة. منيرة ومديحة نموذجاً للمرأة المتعلمة، أم مدحت وعطية المرأة الطيبة المباشرة والموزعة بين دائرة البيت ومتطلبات العائلة. وهناك إشارات للمرأة التي تتعاطى البغاء ـ ماري وصديقة فؤاد التي انتهت إلى أحد البيوت المشبوهة.

منيرة

امرأة نحيلة بيضاء تنتمي إلى عائلة فقيرة وبدون تاريخ، تعمل في سلك التعليم لها أخ مصطفى ضابط في الجيش متزوج وله طفلتان، راتبها الضئيل لم يمنحها فكرة الاستقلال التام فاضطرت للعيش مع أختها مليحة في بعقوبة حيث التقت بعدنان ابن اختها الذي اغتصبها في غفلة منها في أحد بساتين بعقوبة. وكان لتلك الحادثة وقع سوداوي في حياتها دفعها للانكفاء والحزن. كانت لحد ما فرحة، فرحة قبل الحادثة وتعيش حياة عادية وتذهب للسينما ـ وتملكها يأس كبير ولكنها أفلحت بإيجاد نوع من التوازن بفلسفتها للأمور «يهمني ألا أشقى طول الوقت إذ يبدو من التعقل أن لا نأكل لحمنا، يكفيني أن ننجو من بعض الأخطار لا كلها» وتحاول إقناع نفسها «أمسك بيدي على موضع الإصابة وأخفيه فلا يعود له وجود ظاهر ويصير بالإمكان معاودة العيش السوي». إن أملاً لاح لها بالعودة إلى العيش السوي حين تعلق بها مدحت وقرر الزواج منها إلا أن الأخير لم يمنحها الفرصة فجن جنونه حين اكتشف أمرها وهجرها باليوم الثاني من زواجها تاركاً إياها فريسة للهمس المسموع. الأب عبد الرزاق برسالته الشفهية إلى ولده مدحت «ولا تزر وازرة وزر أخرى» يوحي باكتشاف سر منيرة. من المسؤول عن فشل زواج منيرة؟ هل القدر الذي جعلها ضحية لعدنان، أو مدحت لأنه لم يسمع قصتها. إن منيرة مسؤولة بالمقام الأول عن ذلك الفشل لأنها لم تملك جرأة المصارحة علماً أن كل أوراق القضية الرابحة بيدها. حاولت في النهاية أن تشرح الأمور لمدحت المختفي عنها برسالة لم تصل إلى يديه. وجاء مصرعه ليزيدها هماً على هم. وجع في الليل وحبوب منومة ووصلت إلى القناعة أن كل شيء في الحياة ممروض ومشوه.

View all my reviews

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة