
My rating: 3 of 5 stars
اللغة لها ميزتان مترابطتان: الأولى أنها اجتماعية. والثانية أنها توفر وسيلة نشر علني لـ(الأفكار) التي ستبقى خاصة. دون اللغة، أو ما قبل اللغة التماثلية اللغوية، تقتصر معرفتنا بالبيئة على ما أظهرته لنا حواسنا، إلى جانب الاستنتاجات التي قد تثيرها دائرتنا الخلقية، لكن بمساعدة الكلام، يمكننا أن نعرف ما الذي يمكن للآخرين أن يرتبطوا به، وأن نتعرف على ما لم يعد حاضراً بشكل معقول، لكن يتم تذكّره فقط". (المعرفة الإنسانية ص 73).
هذا، والجانب الآخر في المعرفة الإنسانية هو الرياضيات والمنطق، الذي انكب راسل على دراستهما بعمق وإسهاب. فالرياضيات، حسب تصوّره، ليست فيها الحقيقة فقط، بل إنها تحوي جمال الجد والصرامة، إذ فيها الصفاء والكمال، دونما أن يتعصّب الإنسان ويثار لشيء ضد آخر.
إن الرياضيات فيها من الموضوعية القويّة، بحيث لا تتيح للشخصيَّة أن تتدخل أبداً، كما أن الرياضيات وحدها تحوي المعرفة المطلقة، برموزها وأشكالها وطُرقها ذات الفروض الثابتة، رغم كل ما يطرأ على العالم من حوادث وتغيّرات.
على سبيل المثال، إذا فرضنا أن (أ) هي (ب)، ثم فرضنا أن (س) = (أ)، إذاً لكانت (س) = (ب) أيضاً. فهذه حقيقة ثابتة مهما تغيّر ما في العالم. وانطلاقاً من هذا الواقع الرياضي، يطالب راسل بأن تكون فروض الفلسفة مثل فروض الرياضيات، بحيث لا تتعلق بالأشياء، بقدر ما تبحث فيما بين الأشياء من صلات، لأنها يجب أن تكون مستقلة عن الحقائق الفرديَّة، والحوادث الجزئيَّة، حتى إذا تغيّر كل جزئي في العالم، لأنه هنا سوف تكون الفروض الفلسفيّة ثابتة في صحتها، لا يعتريها تبديل ولا تغير البتة.
وهكذا يحاول راسل أن يحصر كل الفروض الفلسفيَّة الواجبة في الصور الرياضيَّة المجردة، ليزيل منها الحقائق الجزئيَّة، التي يجب أن تستقل عن الفلسفة تماماً. وهنا، يكون راسل متوافقاً مع مسلكية نظريته المعرفيَّة، إذ إن "الكائنات الفرضيَّة"، كما يقول في كتابه "التصوف والمنطق"، هي مثل الإلكترونات والغازات المثاليَّة وغيرها، عند تحليلها لا يمكن مشاهدتها، كونها تركيبات مؤلفة من عناصر يدركها الإنسان سواء كان بالفعل أو بالقوة، لأنها وحدات محسوسة. (الطبعة الإنجليزية، 2012، ص 100).
معنى ذلك، أن تحليل الأجسام إلى وحداتها الأولى والبسيطة، فإن كل هذه الوحدات إنما تكون محسوسة بالفعل أو بالقوة. وبذلك فإن جميع القضايا التي تخص الكائنات الفرضيَّة أو التي تخص الأشياء يمكن ردها إلى "القضايا الأساسية"، التي لا يتطرق إليها الشك قط، وفق قول راسل، سواء أكانت من القضايا الرياضيَّة والمنطقيَّة أو من القضايا الحسيَّة المُدّرَكة بالحواس مباشرة.
صفوة القول، إن نظرية المعرفة عند راسل ترتكّز على محورين رئيسيين، ويمكننا من خلالهما أن نتعرف على ما يحيط بنا من أشياء وظواهر في العالم الطبيعي والكوني. الأول، يعتمد على المعرفة بواسطة البيانات الخاصة بنا عبر تصوراتنا اللحظيَّة إلى ما ندركه من اللون والصوت والرائحة والطعم وغيرها. والثاني، في المعرفة التي تتضمن الأشياء المادية ذاتها، التي يمكن الاستدلال عليها بشكل مباشر، كونها أشياء مُدّرَكة، لكن من دون معرفتها.
وبما أن راسل تجريبي صميمي، إذ إن المعرفة عنده إنما تكون مستخلصة من الأبحاث التجريبية، التي تكون يقينية بتكرار الاختبار فقط، إلا أنه ظلّ مقتنعاً بأن المنهجين العلمي والفلسفي لا يؤديان إلى معرفة كلية ثابتة، بل مؤقتة وجزئيَّة ليس إلا.
View all my reviews
تعليقات
إرسال تعليق