عبقرية الكذبعبقرية الكذب by François Noudelmann
My rating: 4 of 5 stars

الحقيقة، إن الطبيعة مليانة أكاذيب، بتكون بغرض النجاة أو الافتراس، وموجودة حتى من قبل اختراع اللغة ومن قبل الإنسان ذات نفسه.
طيب، سيبك من الحيوانات خالص. فيه ظواهر إنسانية كمان الكدب جزء من تكوينها، يعني، الحُب مثلًا، ممكن يبدو ليك إن الحُب دا شيء طبيعي وتلقائي، وموجود من أول ما نزل الإنسان على الأرض، لكن عمرك فكرت في الحُب دا باعتباره كدبة بيكدبها عليك جسمك؟
وبتكدبها عليك جيناتك؟ يعني، افتكر كدا لمّا زهقت من أكاذيب العالم وزيفه، وكانت الحياة في عينك بلا لون، وفجأة، لقيتها قدامك، أيوة، البت اللي طول عمرك مستنيها!
ومن أول لحظة، قُلت: "أهي، نُصّي التاني. حُب عمري اللي اتخلقنا لبعض، هي دي اللحظة السحرية التمام!" للأسف، صديقي الإنسان، الزهق والتعب والمعاناة، اللي كنت حاسس بيهم قبل ما تشوف فتاة أحلامك، تسببوا في إفراز كميات كبيرة من هرمون الكورتيزول في جسمك، والهرمون دا بيخلّيك مسعور على إقامة علاقة عاطفية، علشان تهدّي مستويات التوتر اللي مبهدلاك.
وفي اللحظة دي، ظهرت هي قُدّامك، وبدأت تفكر فيها كشريك محتمل، تفكيرك في هذه الأنثى معتمد أساسًا على الشفرة الجينية اللي بتتحكم في نظرتك للأمور ولأن الإنسان زمان كان بيقيّم جسم الأنثى بناءً على خصوبتها، وإمكانياتها، لا مؤاخذة، التكاثرية،
وقدرتها على إنجاب سلالة قوية تعيش وتتحدى ظروف الطبيعة، فبقى عندهم مجموعة من المعايير، اللي انت ورثتها منهم،
جدّك البدائي مثلًا، كان بيشوف المؤخرة الدهنية الممتلئة دليل على قدرة الأنثى على الإنجاب، وبالتالي، هتدّيله عيال كتير صحتهم كويسة، يساعدوه في الصيد وفي الزراعة. وانت، صديقي الإنسان، جيناتك لا تزال أسيرة لتفضيلات جدّك البدائي دا، وبيقولولك إن دا حُب من أول نظرة، مش مجرد تطلع للتكاثر.
البت برضه، لأن الزمن جه عليها هي كمان، والكورتيزون مش عاتقها، بتشوف في مواصفات الذَكَر الجسدية، بشكل غير واعي يعني، إنك ممكن تبقى أب كويس ما أصل الجو دا مش ناقصه غير بطانية 190 سم عندها دقن!
المهم، انت شُفتها وهي شافتك والدوبامين ضرب في دماغكم انتم الاتنين، وعلى مستوى الابينفرين ودا هرمون تاني مسئول عن الشعور بالإثارة والنشوة الجنسية، وفي نفس الوقت، بتتغير مستويات هرمون تاني اسمه التسترون،
والتغيير دا بيقلل قدرتك على إصدار أي أحكام نقدية أو سلبية، خلاص كدا يا معلم، بقيتم انتم الاتنين من غير أي دفاعات نفسية،
كل واحد فيكم مش هيشوف في التاني غير كل جميل. والحوارات اللي جسمك بيحوّرها عليك دي، بنقول عليها: حلاوة الحُب وجماله، "كيوبيد" وسهامه، ويتلاعب بيك السيروتونين عشان يولّد عندك مشاعر مختلطة من الأمل والخوف والوسوسة، اللي بنسمّيها نار الحُب،
وتمسك وردة، تقعد تقطّع فيها وانت بتقول: "بتحبني! ما بتحبنيش!" لو كانت الغريزة بتكدب قبل وجود اللغه لكن لو جينا نبص على فيلسوف فرنساوي تاني، اللي هو "فرانسوا نودلمان"، هنلاقيه بيقول لـ"روسو":"انت أصلًا كداب يا (روسو)! وكداب أوي كمان!"
يعني، "نودلمان" شايف إن نظرية "روسو" في الكدب الهدف منها تبرير كدبه هو الشخصي، أو التخفف منه، لأنه "روسو" نفسه بيقول أكاذيب كتير أوي في كُتُبه، حسب كلام "نودلمان" يعني. يعني مثلًا، "روسو" في كتابه "(إميل) أو التربية" اللي قدّم فيه نظريات في تربية الأطفال، بيحاول يقنعنا إن المؤسسات الحكومية، اللي هي زي دور الأيتام مثلًا، هي أحسن مكان تربي فيه الأطفال. يا سلام! فكرة غريبة جدًا، بالنسبالك انت دلوقتي، صديقي الإنسان!
فما بالك بقى بأيام "روسو"، لمّا كانت معدلات الوفاة عالية جدًا في دور الأيتام دي! نودلمان" بيقول إن كلام "روسو" هنا محاولة للدفاع عن اختياراته الشخصية في الحياة، بعد ما الراجل هجر أطفاله الـ5، وحطهم في دار رعاية حكومية! وكان دايمًا "روسو" حاسس بالذنب ناحيتهم، وفي نفس الوقت، كان حاسس إن هو متهم، وإن الناس بتتكلم عنه بسبب فعله دا.
ويبقى نظريات "روسو" نفسها في الكدب مجرد كدبة لتبرير تصرفاته. تبنّي "روسو" مفهوم الكدب باعتباره إخفاء حقيقة لازم تظهر، بيساعده إنه يحدد هيظهر إيه ويخبي إيه، وهو بيكلمنا عن حياته الشخصية،
بما إن الإخفاء دا مش بيضر حد، حسب نظريته يعني، وبالتالي، هيفضل "روسو" يقف كل يوم قُدّام المراية، ويبص في وشه، ويحس إنه مش كداب. مع إننا ممكن نعتبره بيحاول يحقق منفعة من الكدب دا، بإنه يظهر كشخص كويس. ودي منفعة إيه؟ تطلّعه كداب عادي، حسب نظريته هو كمان"روسو" واحد من الفلاسفة اللي دافعوا عن الفكرة اللي احنا بنقول عليها بالشعبي كدا "الكدبة البيضا"، اللي هو تقسيم الكدب لنوعين، نوع شرير، ونوع تاني ممكن يبقى محايد أو حتى يبقى مطلوب وأخلاقي في سياقات معيّنة. وحتى من قبل "روسو" بكتير، يعني، كان الفيلسوف الإغريقي "أفلاطون" بيشوف إن الكذب اللي بييجي من وراه خير، هو كذب أخلاقي، بيسمّيه "الكذب النبيل"،
ممكن يبقى زي حكاية الواد اللي بيغرق كدا. بس بالنسبة لـ"أفلاطون"، الكدب النبيل دا بيتمثل أكتر في كدبة دولة على الناس
علشان السلام الاجتماعي يستمر. جايز رؤية "أفلاطون" للكدب تكون مرتبطة بحكاية الكهف المشهورة بتاعته، اللي حكاها في كتابه "جمهورية"، أفلاطون" بيطلب مننا نتخيل إننا قاعدين جوا كهف، تخيل معايا، صديقي الإنسان، قاعدين جوا كهف، ومربوطين بحيث ما نقدرش نتحرك من مكاننا، ولا حتى نبص ورانا، وفي نفس الوقت، فيه ورانا نار، والنار دي بتعمل ظلال على الجدران اللي قُدّامنا، واحنا قاعدين نتفرج على الظلال دي، وفاكرين إن الظلال دي هي كل حاجة في العالم. لكن بعد شوية، حد مننا بيتحرر، وبيشوف النار اللي وراه، فيعرف إن النار هي مصدر الظلال، وبعدين، يطلع من الكهف أصلًا، ويلاقي إن الدنيا صابحة والحياة جميلة،
ويشوف الشمس ذات نفسها، ويعرف ساعتها، إنه كان عايش في كدبتين جوا بعض! ويرجع يحكي للناس اللي تحت، فيضحكوا عليه، ويقولوله: "ولا، ولا! انت شكلك أهبل يا لا!" أفلاطون" كان شايف العلاقة بين الحاكم والمحكوم زي العلاقة بين الشخص المتنور، اللي شاف الشمس في الحكاية اللي فاتت دي، وبين الناس الموهومة اللي عايشين قُدّام الظلال. فما فيهاش حاجة يعني، لو الراجل اللي شاف الحقيقة دا، اللي طلع برة الكهف، شاف الشمس والنور، ما فيهاش حاجة لو كدب على الناس اللي تحت دي، عشان مصلحتهم،
هو أعلم منهم بكتير، وكدا كدا، حياتهم كلها كدب في كدب. طبعًا، دي النظرية المفضلة للحكومات المستبدة واللجان الإلكترونية.
يعني، أنا أصلًا عندي نظرية، صديقي الإنسان، إن "أفلاطون" دا ما كانش إنسان حقيقي، كان لجنة إلكترونية! معظم الناس هيبقوا ضد دفاع "أفلاطون" عن كدب السياسيين، بالعكس، احنا دايمًا عندنا تطلُّع إن الدولة اللي نعيش فيها
تكون دولة ما فيهاش كدب، وهتبقى دي بالنسبالنا قمة الديمُقراطية والحرية لكن رغم كدا، ممكن الكدب يكون بيزيد مع الديمُقراطية، مش بيقل، يعني، الفيلسوف الألمانية "حنا آرنت"
في مقال ليها بعنوان: "السياسة والكذب"، بتقول إن الكدب وصل في العصر الحالي إلى حدوده المطلقة وبقى كامل ونهائي، مع إنه قبلها، في القرن الـ19 مثلًا، كان الكاتب الأيرلندي "أوسكار وايلد" اشتكى من مستوى الكدب، اللي كان شايفه متدني وأي كلام وما فيهوش ضمير، خصوصًا، كدب السياسيين. علشان تفهم الفرق بين اللي بتقوله "أرنت"، واللي بيقوله "وايلد"،
تعالى نتخيل اتنين حُكّام كدابين في بلدين مختلفين، الحاكم الأول في بلد ديمقراطي. والتاني، بلد نظامه شمولي وديكتاتوري، والحاكم دا معاه كل أدوات القمع. في رأيك انت بقى، صديقي الإنسان، مين فيهم اللي هيهتم أكتر بإتقان الكدب؟
وبإن الكدب بتاعه يكون مُحكَم، وما فيهوش أي ثغرات؟ أكيد الأول، بتاع الدولة الديمُقراطية دا، كل تركيزه هيبقى على إتقان الكدب دا، لأنه أحد أدواته الرئيسية في الحُكم. لكن التاني هيوجع دماغه ويفكر ليه؟ هيقول لشعبه: "خدوا كدبة أهي ما لهاش لازمة، مشّوا بيها حالكم وخلاص ولو مش مقتنعين خالص، خلاص، اتفضلوا نورونا في السجن، وندوّر على الحقيقة المطلقة مع بعض!"
وما تخافش، صديقي الإنسان، هأشرب من غير صوت المرادي. النظريات اللي بتقول إن بعض الكدب ممكن يبقى مُبرَّر أو مقبول،
سواء كان كدب مش مؤذي لحد، أو كدب للصالح العام، كل النظريات دي فضلت مثيرة للجدل بالنسبة لفلاسفة تانيين. فعلى الناحية التانية من "أفلاطون" مثلًا، هتلاقي "كانط" الفيلسوف الألماني ذو الشخصية الضيقة جدًا، كانط" كان راجل ضيق جدًا على جميع المستويات، وبدل البحبحة بتاعة "روسو"، اللي هو بالنسباله كل الكدب ممكن يعدّي دا،
"كانط" كان شايف إن ما فيش ولا كدبة مسموح بيها، ما ينفعش نكدب، حتى لو الكدب دا هينقذ حياتنا. كان باني "كانط" فكرته دي على نظريته المنطقية في الأخلاق، اللي هي بتقول باختصار شديد إنك عشان تعرف أي فعل أخلاقي ولّا لأ،
اسأل نفسك، هل ينفع الفعل دا يبقى قانون عام كل الناس تعمله طول الوقت؟
لو الإجابة لأ، يبقى الحاجة دي مش أخلاقية، يبقى ما ينفعش تعملها انت كمان، فمثلًا، إنك تكون مؤدب مع اللي قاعد جنبك في الـ"ميكروباص"، هل ينفع تبقى دي حاجة بنعملها كلنا؟ آه، طبعًا، يا ريت أصلًا! إذًا دا فعل أخلاقي. إنك تضرب على الربع جنيه الباقي للراجل اللي ورا، عشان مش معاك فكة،
هل دي حاجة كلنا ينفع نعملها؟ لأ، لأن دا ساعتها هيدمر الثقة اللي بتعتمد عليها عملية لمّ الأجرة،
وهيعطّل العملية الميكروباصية بالكامل، أو هيأدي إلى تناقض في منطق الميكروباص بنفس الطريقة دي، "كانط" بيقولّك: "لو عايز تعرف ينفع تكدب ولّا لأ تخيل الأول عالم الكدب فيه ممكن لأي حد طول الوقت." وبما إن العالم دا هيبقى مستحيل نعيش فيه،
يبقى الكدب غلط مطلقًا طيب، يا عم الحاج "كانط"، ما فيش رخصة كدا ولّا كدا؟ ما ينفعش حتى واحنا بنهزر؟ أو واحنا بنجامل حد؟
ما ينفعش حتى لو هنموت؟ حَرْفيًا، ما ينفعش حتى لو هتموت، صديقي الإنسان،




View all my reviews

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة